الثلاثاء، 12 ديسمبر 2023

لذة ألم النهايات...


في غمرة الروتين القاسي، والأيام التي أصبحت تتكرر بنفس التفاصيل الرمادية، والساعات التي حفظت ترتيب أحداثها عن ظهر قلب، والدقائق التي أكاد أجزم أنني أصبحت أسمع صوت دقات الساعة كلما أشارت إليها مُعلنة مرور لحظة رتيبة أخرى من حياتي، والثوانٍ التي تمر سريعاً، لكنها مُجرد مقدمة لما هو أبطأ وأقل حماسة وشغف، لطالما أحببت النهايات، لطالما شعرت وكأن لها رائحة خالصة، عبق ينتشر في الأرجاء بمجرد اقتراب حدوثها، شرارة ملتهبة تملأ الدنيا نوراً يُضيء قتامة الأيام، وتُلون الحوائط الرمادية العابسة التي تُحيط بها من كل جانب، شرارة يُمكن أن توازي في حِدتها شرارة الحب من النظرة الأولى والنجاح ببراعة ونَجابة. شرارة لطالما لهثت ورائها بأنفاس متلاحقة وخطوات مثقلة تأبى الانصياع لي، حتى وإن رجوتها كثيراً أن تستمع لحديثي، لكنها لطالما أعلنت تمردها وعصيانها علّي، ويبدو أنها كانت مُحقة…


منذ نعومة أظافري وأنا أتساءل ماذا بعد؟، لطالما شاح بصري تجاه النهايات، الأحداث الأخيرة وصافرة النهاية ولقطة غلق الستار، لم آبه كثيراً لكنز الرحلة ومتعة الوصول، لكنني كنت دائماً أنتظر تتر النهاية، تلك اللحظة التي ينكشف فيها كل شيء، تُضيء المنطقة الرمادية في عقلي، وتنحل عقدة تفكيري، وأصل إلى نهاية المتاهة بعد ساعات من الطواف اللانهائي في تعرجات الطريق. أثناء انتظارها يمر كل شيء سريعاً من حولي، الأحداث، الأيام، الساعات والدقائق، أحاول أحياناً أن أشير إليها بالتوقف، أو أمنعها حتى بالقوة، لكنها تأبى الانصياع لي، ترفض نداءاتي وتُقيد خطواتي، وتفضِّل السير.


هل كُنت أستمتع بذلك؟ سأكذب إن قلت لا، بالطبع كنت أستمتع أحياناً، لكنها كانت متعة لحظية تتوارى سريعاً لدرجة أنك تشعر وكأنها سراب عات يحسبه الجوعان زاد والظمآن ماء، مجرد أطياف أحلام زائفة لا تلبث أن تتبدد مع هبوب الرياح العاتية، بل وتفّر مسرعة لتختبئ خلف ستائر الواقع وجدران الحقيقة، سراب لطالما لهثت وراءه مليّاً، عكر صفو رحلتي وخطف الألوان من لوحة أيامي، حاولت كثيراً عرقلته وتعطيل مساره، لكنني أخفقت وعجزت وفشلت.


أشاهد فيلماً جديداً يُعرض لأول مرة في السينمات، وفي لحظة واحدة لا تكاد تقاس بالزمن يُسيطر الذهول والحماس على المشاهدين من حولي، الأعين تترقب، القلوب تنبض بسرعة خارقة حتى تكاد تسمع أصواتها وكأنها طبول الحرب معلنة أن لحظة المعركة على أهبة الوصول، بينما كنت انا على الجانب الآخر محرومة من لذة الانتظار ومتعة الترقب.


بمجرد انطلاق صافرة البداية تتجمد الصورة من حولي، وأشعر وكأنني أجري في متاهة كُبرى ألاحق شبحاً مجهولاً لسنوات طويلة، جبال الثلج تُطبق على صدري، ويشتد وقع أنفاسي، يمر عليّ الوقت متثاقلًا، أتمنى لو استطاعت عقارب الساعة أن تفرض سطوتها لتمر بانسياب تام، الأنفاس تتسارع كلما مر الوقت، أشعر بالتعب والثقل وأنا لم أبرح حتى مستقري، أرفع بصري كل دقيقة لأنظر إلى ساعتي التي تكاد تصم أذني بدقاتها، يتوه عقلي ويهيج ساكني، وتضطرب أعصابي أكثر وأكثر إلى حين قص شريط النهاية وعودة إيقاع الحياة إلى طبيعتها، فتلهيني سعادتي ببلوغ النهاية عن رحلة شقائي في أثناء انتظارها.


هكذا يحدث الأمر في كل مرة، أتحمس لوهلة وانزعج لدهر، انتظر تتر نهاية الفيلم الذي احترقت شوقاً لرؤيته، وصافرة نهاية المباراة التي أرجأت كل مواعيدي طوعاً لها، والفصل الأخير من الكتاب الذي دفعت ثمنه من مدخراتي، والساعة الأخيرة من رحلتي التي انتظرت شهوراً عِدة لحضورها، نهاية اليوم الدراسي وساعات عملي وحياتي برُمتها، طالما كانت هنالك نهاية من الأساس ستجدني هنا جالسة، متواجدة أتصبب عرقاً، وامتعض امتعاضاً شديداً يكاد يخرق حجاب قلبي…


لم أفق من غشيتي تلك، وأفهم مصيبتي إلا عندما أجبرتني الظروف على تكرار الفعل مرتين، وهنا كانت الصدمة أذهب إلى مكان زرته في طفولتي لأكتشف أن الذكريات أصبحت سراباً، نعم أتذكر المكان، أتذكر جلوسي على الأريكة بجوار عائلتي واللعب رفقة الأقارب الصغار ممن كانوا في مثل عمري، لكن تلك الذكريات أصبحت أشبه بالمقبلات الجانبية، بينما الوجبة الرئيسية كانت رحلة عودتي إلى المنزل بعد انتهاء اليوم وجلسة الاستحمام وتغيير الملابس والنوم بثبات عميق من أثر الرحلة الطويلة، كان ذلك هو ما كان يحتل المشهد وكأنه الحدث الأساسي!، أشاهد فيلماً تابعته منذ فترة ليست بالقصيرة وبدلاً من تذكر أحداثه أجد نهايته الصادمة تزيح كل الأحداث جانباً وتهيمن على عقلي كلياً، اتابع أهداف مباراة قديمة وأجد نفسي تائهة في غمرة الأحداث التي حدثت خلالها وكأنني أراها للمرة الأولى، وهكذا صرت أفارق كل ذكرياتي واحدة تلو الأخرى مفجوعة برؤيتها تتبخر في الهواء وكأنها مجرد أضغاث أحلام تتبارى في الاختفاء أو كأنها لم تكن…


لم افهم ابداً سر هيامي بالنهايات، البعض اخبرني أنني ربما افتقد لشعور الصبر الذي يُجبر الجميع على ارتشاف كؤوس الانتظار بلّذة وشغف، فأنا لست هذا الشخص الذي قد يقضي ليلته في شرفته في ليلةٍ من ليالي الشتاء شارداً في أفلاك السماء يفيض بالأسرار للنجوم العابرة اللامعة ويُطارد بعينه النسور المُحلقة في تلك البقعة الزرقاء، إنما على النقيض فأنا أفضل مطاردة الحياة السريعة حتى وإن سبقتني كثيراً برتمها المتسارع، العبث مع الروتين بمرح ونشاط، ومضغ قضمات ضخمة بنهم من الساعات المتلاحقة التي تقطع أنفاسي من العدو ورائها دون أن اشكي هماً أو أندب حظاً، ربما كانوا مُحقين!


البعض الآخر برر أفعالي تلك بكون كل ما مررت ومازالت أمر به به لم يُثر اهتمامي من الأساس، لم يُجبرني على الالتفات له أو التلّذذ والهيام في أكناف خيالاته! لكن كيف قد يُصبح كل ما حولي يُثير ضجري، كيف يظلل السأم كل تفاصيل حياتي، ويُرسم الملل والتبرُّم مسار رحلتها... ربما كانوا مُحقين أيضاً.


ظللت أتساءل كيف أفقد شغفي بعد ثوان قليلة من ممارسة فعل "التأني والانتظار" مهما بلغت شّدة وحماسي وذروة حَميَّتي، كيف أصبحت ممزقة بين حياةٍ لم اتمناها وحياةٍ لا أعلم السبيل إليها، حياةٍ استثقل ظِلها وأخرى تفر من وجهي كل ليلةٍ ولا تريد فتح ذراعها إلي ابداً.


لم يجد الجميع من حولي الجواب، ولم أجده أنا ابداً، وهكذا بقيت أتجرع كل ليلة من كأس النهايات جُرَعاً مريرة، أحاول كبح جماح شهوة "حرق النهايات" تلك والاستمتاع بمسار كل شيء حتى وإن كان على سبيل الإدعاء، يفلح هذا مرات ويُخفق مرات أخرى عديدة، تمر الأحداث والسنوات من أمام عيني ولا ارتوي منها سوى قطرات النهايات التي تعلق بعقلي وتُزيح باقي التفاصيل بأكملها جانباً حتى تخفت رويداً رويداً ثم يتوارى أثرها تماماً وكأنها لم تكُن، تخونني ذاكرتي كثيراً ويعبث عقلي معي مئات المرات بينما انا ساكنة في العربة الأخيرة من القطار أرقب كل شيء بعين نصف مفتوحة غير مكترثة لكل ما يحدث حولي، فقط انتظر وصولي إلى المحطة الأخيرة من حياتي أو رحلتي…


الأحد، 25 سبتمبر 2022

أحلامٌ لم تعد على قائمة الانتظار

 

هل جربت قط أن تحلُم وأنت مستيقظ، أن تشاهد حلمك أمام عينيك وتعي كل ما يدور به، ترسم كل تفاصيله بأناملك كأنك رسام يرسم بريشته لوحته الفنية، تتحكم في مسار أحداثه وكأنك مُخرج يحدد بعصاه ملامح عمله الإبداعي، تضمه بقوة بين ذراعيك وكأنك لن تفلته أبدًا، تشعر به بكل حواسك وتلمسه بيديك كما لو كان حقيقيًا! تنسى معه كل مآسي حياتك وتهرب إليه من مصاعبها وكأنه ملاذك ومخبأك الوحيد!

يدعوها البعض أحلام اليقظة؛ لأنك تحلُم وأنت مفتوح العينين وتشعر بكل ما يدور حولك، أما الآخرون فيدعونها هلاوس وتهيؤات؛ لأنها في نظرهم مجرد سراب هلامي لا وجود له، ننخدع بها مثل التائه في الصحراء الذي يرى نبات الصبار وكأنه بئر ماء، ولكني أدعوها مسكنات الحياة التي نلجأ إليها هربًا من أحزاننا وأوجاعنا، فبها تطيب الحياة وتحلو وبدونها تغدو روتينية، مملة وكئيبة لا متعة فيها ولا “حياة”! البعض يكفيه القليل منها، هو فقط يلجأ إليها عندما تهاجمه أمواج اليأس ويحتاج لما يذكّره بأن في تلك الحياة ما يستحق أن يُحارب لأجله، أما الأخرون وأنا منهم يحتاجون إلى الكثير والكثير منها لتستمر حياتهم، فهي بالنسبة لهم بمثابة الوقود الذي يدفعهم إلى الأمام ويعينهم على الاستمرار والمضي قدمًا.

جميعنا نحلم، جميعنا نتخيل أشياءً نتمنى لو تحدث يومًا، للبعض قد تكون كثيرةً لا تُعد ولا تحصى، وللآخرين قليلةٌ قد تُعد على أصابع اليد الواحدة، عاديةٌ هي نتداولها علنًا أمام الجميع، أو محظورةٌ نخفيها سرًا عن أقرب الناس إلينا، متواضعةٌ قد تتحقق بين ليلةً وضحاها، أو مستحيلةٌ قد تنتظر عمرك بأكمله لتراها تتحقق، وقد تموت وأنت تحاول. ليس المهم كم عدد أحلامنا أو طبيعتها، المهم أننا جميعًا نمتلك أحلامًا نسعى لتحقيقها، ونبذل الغالي والنفيس لنراها تكبر أمام أعيننا، ونصل إلى اللحظة التي نشعر أننا أدّينا الرسالة التي لطالما حاربنا لأجلها.

مثل الجميع امتلأت جعبتي بالكثير من الأحلام، كانت لدي قائمة كبيرة لا تُعد ولا تحصى منها، كنت وما زلت أقضي وقتي في تخيلها، وأبتسم تلقائيًا إذا فكرت ولو للحظة في كيف ستصبح حياتي إذا كنت سعيدة الحظ وتحقق أيٌ منها، أُفضل دومًا أن أحلُم وأنا مفتوحة العينين، وكأن ذلك يقربني من أحلامي أكثر وأكثر ويشعرني بكونها ممكنة الحدوث، وربما أيضًا لأنها تعوضني عن أحلامي وأنا نائمة، والتي لا أتذكر تفاصيل معظمها، وما أتذكره منها يدور حول رسوبي في مادة الرياضيات أو تأخري عن موعد لجنة الامتحان أو ركض حيوانات مفترسة ورائي دون سبب!

أحلامي لم تكن يومًا مستحيلةً ولا حتى صعبة الحدوث، أو هكذا كنت أظن! كنت أكرر كثيرًا جملة “عندما أكبر سوف أفعل كذا، وسوف أصير كذا …”، كنت أحلم أن أكون مراسلةً رياضية بسبب ولعي وشغفي بكرة القدم، كنت اتخيل نفسي دومًا وانا أُجري اللقاءات مع اللاعبين في أرضية الملعب، أطرح عليهم مئات الأسئلة التي يتمنى الجمهور أن يسمع أجوبتها، والتي ستكون بالطبع أعمق بكثير من تلك التي تدور حول شعورهم عند المكسب وهل حزن أيًا منهم لخسارة فريقه؟ وما على شاكلتها من تلك التساؤلات التي تثير الأعصاب، نعم سأكون الأولى في مجالي هذا وسأجعل الجميع يتحدث عن الفتاة التي تفوقت في مجالٍ تم تصنيفه بأنه للرجال فقط، وسأغير الفكرة التي لطالما روّجها البعض عن أن كرة القدم لا تصلح للبنات.

كنت أُحلم أيضًا أن أعمل بالراديو، ففي فترات الثانوية العامة والحصار الأسري الذي تم فرضه من قبل الأهل كان الراديو رفيقي الوحيد، كنت أستمع إليه على الدوام وأتابع برامجه بشغف، ومن هنا لمعت الفكرة في عقلي، تمنيت أن أصبح مثلهم يومًا؛ لي برنامجي الخاص الذي ينتظره الجميع ويستمعون إليه من كل أنحاء الوطن، ومع طبيعتي البشرية الخجولة اعتبرت أنها ستكون الوظيفة المناسبة لي، ولشغفي بقراءة الكتب اخترت أن تكون فكرة برنامجي عن هوايتي تلك، حددت اسم البرنامج وتفاصيله، تخيلت نفسي وأنا أستلم الجوائز عن برنامجي الذي سيكون الأفضل وابتسمت للحظات.

أحببت الإعلانات أيضًا، كنت أمتلك “مفكرة” صغيرة أدوّن فيها دومًا أفكارًا لحملات إعلانية، وخصوصًا في مجال المرأة الذي أحب الكتابة فيه، كنت أتمنى أن أكبر لأراها تتحول من مجرد أفكار محبوسة داخل “الدرج” إلى حملات حقيقية واقعية يقرأ الجميع اسمي عليها لأشعر وقتها بلذة الزهو والفخر.

بدأت أولى خطواتي الفعلية في تحقيق أحلامي بدراسة مجال الإعلام باعتبارها البوابة التي سأعبر من خلالها نحو تحقيق الحلم الأكبر، ظننت أنني قطعت الشوط الأصعب، وأن القادم سيكون أسهل بكثير في تحقيق أيٍ من أحلامي تلك، ولكن هيهات!

 

كنت صغيرةً وقتها وأفكر بسطحيةٍ تامة، فقد كنت أظن أن العمر هو العائق الوحيد الذي يمنعني من تحقيق أحلامي، فبمجرد أن أكبر ستتحقق جميعها وسأجدها تنمو أمام عيني مثل الزهرة المتفتحة، كنت أتحدى الجميع أنه مهما قابلت من صعوبات واعترض طريقي آلاف الأشخاص ممن سيحاولون اغتيال أحلامي وإجهاضها فلن أستسلم أبدًا أو أتنازل عن أحلامي، وسأظل أحارب دفاعًا عنها حتى النفس الأخير. كنت أضحك على هؤلاء الذين تعتريهم نوبات اليأس ويفقدون صبرهم وينسون أحلامهم في غمرة الحياة، كنت أظن أنني لن أصبح مثلهم يومًا وسأتشبث بأحلامي مهما كان الثمن.

لكني كبرت بما يكفي لأفهم حقيقة الأشياء، كبرت لأفهم أن العمر وحده ليس العائق الذي يفصلني عن تحقيق أحلامي، ولكنه قد يفصلني عن معرفة صعوبة أو ربما استحاله تحقيقها، كبرت لأجد في طريقي مئات المعوقات التي أجهضت أحلامي وخنقتها بعد أن كانت تتنفس بحرية، ومئات الأيادي التي زرعت أشواكًا في حديقة أحلامي وسدَّدت مئات الطعنات الغائرة إليها لتقتل أي محاولة لتحريرها، تعلمت أنه ليس هكذا تدار الحياة؛ فلا يكفي أن تحلم وأنت مستلقٍ على ظهرك لتتحقق أحلامك، فنحن لا نمتلك مصباح علاء الدين الذي بمجرد ما يتم تحريكه يمينًا ويسارًا سيظهر جني الأمنيات ليحقق لنا أحلامنا على الفور، بل عليك أن تجتهد وتبذل الكثير لتراها تتحقق، وربما حتى وإن فعلت قد لا تكون سعيد الحظ كفايةً لتراها أمامك، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه، ومئات الأحلام تنكسر على صخرة الواقع الأليم كل يوم، فالحياة ليست دومًا عادلة، ولا تعطينا ما نظن أننا نستحقه بل ما تظن هي أننا نستحقه!

علمت أيضًا أن العمل في وظيفة أحلامي ليس أمرًا سهلاً على الإطلاق، بل في غاية الصعوبة لكثيرٍ من الأسباب، ربما لأنني لست مؤهلةً بالقدر الكافي لشغل الوظيفة، أو لأنها ستحتاج السفر خارج نطاق معيشتي والأهل سيعارضون ذلك بالتأكيد، أو لأن ما سأكسبه منها ربما لا يزيد عن بضع نقود قليلة لا تسمن ولا تغني، أو لأنني لا أمتلك “واسطة” قوية من النوع الذي قد يدفع بك إلى الوظيفة بغض النظر عن مؤهلاتك وخبرتك وغيره، ولكنني تعلمت التأقلم، وأن كل وظيفة أجد نفسي مرتاحةً بها حتمًا ستكون وظيفة أحلامي كما قال كونفوشيوس “اختر وظيفةً تحبها، وبعدها لن تضطر إلى العمل يومًا واحدًا طيلة حياتك”.

أخيرًا تعلمت أن من تخلى عن أحلامه ليس ببائسٍ أو متخاذل، إنما هو شخصٌ قرر النزول إلى أرض الواقع، وبدلاً من البكاء على اللبن المسكوب ولعن الحظ على أحلامٍ أرادها يومًا ولم يصل لها -بل وربما رأى غيره الذي لم يحلم بها قط يحققها- قرر جمع شتات أحلامه والبدء من جديد، فقد ترغمك الحياة على التخلي عن أحلامك أو استبدالها بأخرى “واقعية” تتناسب مع وضعك وظروفك وغيره، وهذا لا يعني أبدًا كونك ضعيفٌ أو متخاذل، فالقوي هو من يبني أحلامه من خلال واقعه، فليس عيبًا أن تبدأ من جديد بأحلامٍ جديدة حتى لو كانت صغيرة في نظر البعض، فمنها ستقودك إلى تلك الكبيرة المثيرة والفاتنة التي تشبه الوجبة الساخنة التي تستقبلك بعد يومٍ طويلٍ شاقٍ ومتعب.

لذلك صرت أتقبل على مضضٍ الواقع، وبقيت أكتب وأكتب، فربما هو الشيء الوحيد المتبقِ لي من أحلامي التي تلاشت ولم تعد على قائمة انتظاري.

This Is Us.. التّقليديّة تربح أحيانًا!


هل تبدو قصص العائلات السّعيدة النّمطية شيئًا يمكن المراهنة على نجاحه اليوم؟ تساؤل ربما دار في أذهان العديد من صنّاع المسلسلات، حيث المراهقون والشباب من متابعي Netflix و HBO  وغيرها صاروا متعطّشين للقصص الأكثر غرابًة ومأسويًّة ودراماتيكيًّة، وقِلَّةٌ منهم فقط مازالت تستهويه القصص الدّرامية التّقليديّة، ونتيجةً لذلك طفت الأعمال الغريبة وغير المألوفة على ساحة الأعمال الفنيّة بينما خَفَتَ بريق النّوعية الدّراميّة الدّافئة ولم تعد حصانَ السّبق النّاجح!

 الرّهان على التّقليديّ

الغريب أن هناك من قرّر الرّهان على الاستثناء والأكثرُ غرابةً أنّ الرّهان نجح! بل وكانت تلك الخطوة بمثابة ورقة يانصيب رابحة!، إذ قلب صنّاع مسلسل This is us الطّاولة على الجميع بإنتاج واحدٍ من أفضل المسلسلات الدّرامية بتقليديّة أمسَ وفكرِ اليوم وبخلطة نجاحٍ مُبهرة تمثّلت في السّيناريو الجذّاب، الجُمَل الحواريّة الرّاقية التّي كانت صادقة بقدر واقعيّتها، وفريق العمل الذّي تم اختياره بعناية فائقة ممّا ساهم في تعلُّق الجمهور بشخصيَّاتهم، وكل ذلك مع الحرصِ على عدمِ الوقوع في فخّ النّمطيّة والملل .. لتشعر وأنت تشاهد العمل وكأنّك تلتهم وجبةً دافئًة – مع لمسة بهار حارة – بعد يوم عمل شاقٍّ بينما تُربت على شعرك يد من تُحب لتطمئنك بأن كل شيء سيكون على ما يرام.

قصة مسلسل This Is Us

القصة تدور حول عائلة تبدو تقليديّة ولكنّها أبعد ما يكون عن التقليدية!، جاك الأب الذي نشأ وسط ظروف عصيبة كان بطلها والده القاسي الصّارم، ومدمن الخمر الذّي كان يتلذّذ بتعذيبهِ وأسرته بالكامل، وأم تقليدية ضعيفة تخشى المواجهة، وأخ متسيّب ولكنّه صديق الطفولة والمراهقة المقرّب لجاك.

ريبيكا الأمّ التّي عاشت حياة الرّفاهية والدّلال التّي لم يعكر صفوها سوى فشلها كمطربةٍ صاعدةٍ ومعاناتِها مع تسلّط والدتها التّي لم تكن تتواني في فرض كل شيءٍ يخصّ حياتها.

تعرّف جاك على ريبيكا ونشأت بينهما مشاعر حبّ رقيقة صافية وعلى الرغم من  كل الصّعوبات والعوائق لفارق المستوى بينهما وظروف جاك السّيئة ومعارضة والد ووالدة ريبيكا على إتمام الزيجة، تزوجا ثم توّجا زواجهما النّاجح بثلاثة أطفال، توأمٌ (كيفين/ كيت) وطفلٌ مُتبنّى (راندل) والذّي ظل فقدانهم لجاك الأب في وقت مبكر في حياتهم هي المأساة والطّامة الكُبرى التّي مهما حاولوا تقبّلها ظلّت ذكراه تطاردهم في كلّ ركن، وكل حكاية، وكل موقفٍ عابرٍ أو ذكرى .. كلّ شيء ظلّ يقودهم إليه في النهاية!

الدّراما وحدها لا تكفي

أكثر ما أثار إعجابي والكثيرين بهذا العمل هو ابتعاده عن فخّ الدراما النمطية الخالية من الهدف والقيمة والتّي لا تُضف جديدًا للمشاهد بل تسقط في فخّ الملل والرّتابة والحوارات الفارغة المكرّرة، إنّما بدلاً من الاستخفاف بالمشاهدين نجحوا في تقديم عمل دراميّ واقعيّ مزج بين المواقف التّراجيدية التّي يذرف معها المشاهد الدّموع وقضايا وصراعات اليوم

قضيّة التّبني التّي تمّ التّعرض لها من خلال حكاية “راندل” ومعاناته طوال حياته من إحساسه بالغربة لكونه طفلًا أسمر نشأ وسط عائلة بيضاء، فعلى الرغم من معاملة والديه الحسنة كان دومًا يرى في عيون الناس نظرة المختلف الذّي لا ينتمي إلى عالمهم وكيف ساهم ذلك في نوباتِ القلق الزّائد التّي عانى منها في حياته ثم ابنته من بعده

كيت” التّي عانت منذ صغرها من الوزن الزّائد وأثرّ ذلك على حياتها وعلى علاقتها بالأخرين، وفقدان ثقتها بنفسها، وعلاقتها المضطربة بأمّها وزوجها، وما زاد الطّين بلّه هو شعورها بالذّنب إزاء وفاه والدها وهو ما جعلها تكتسب وزنًا إضافيًا، حرب فيتنام التّي سلّطت الضّوء على معاناة الشّعوب من خلال قصة جاك وأخيه نيكي، إدمان الخمر الذّي دمّر حياة والد جاك وحوّله لشخصٍ قاسٍ تسبّب في إيذاء الكثيرين وكيف عانى جاك وكيفين من الأمر ذاته وخسرا بسببه الكثير!

صعوبات الحياة الزّوجيّة من وجهة نظر أزواج من أنماطٍ حياتيّة مختلفة، مشاكل الأخوة، فقد أقرب الأشخاص إلينا بصورة مأسويّة وانعكاسه على حياتنا، التّسامح والفرصة الثّانية والتّي ليست دائمًا سيئة..

العائلة دائمًا أولًا

إن لم تكن عائلتك على رأس أولوياتك فحتما لديك مشكلة كبيرة يجب أن تقف أمامها طويلاً!، يذكّرنا المسلسل بالحكمة الأهمّ “العائلة أولاً” التّي ضاعت مؤخرًا في غمرة الحياة وتسبّبت في فقدان لغة الحوار بين جميع أفراد الأسرة، فمن خلال ثلاثة أُسرٍ متنوّعة نتذكّر أنّ أفراد عائلتنا هم أكثرُ النّاس حبًا وتقديرًا لنا مهما اختلفنا أو انقسمنا، أو بعدَّتنا ظروف الحياة.. لا سند لنا سوى عائلتنا!

جاك بيرسون الأب العطوف الذّي يعرف نقاط ضعف أطفاله يساندهم ويزيد ثقتهم بأنفسهم، ريبيكا الأمّ التّي على الرّغم من خلافها مع زوجها تقف بجواره في أزمته وعلى الرّغم من معاناتها بعد وفاته إلّا أنها تماسكت ولملمت أوراقها وعادت لتدفع بعائلتها إلى برّ الأمان. الأبناء الذّين يقفون بجوار بعضهم البعض مهما اختلفوا، راندل الزوج المساند لبيث زوجته وعلى الرغم من اختلافهم أحيانًا إلّا أنّهم يجدون دومًا “باب الرجوع”، الابن الذّي يتسامح مع والده البيولوجيّ على الرّغم من تخلّيه عنه سابقًا، والأب الذّي يقف بجوار ابنتيه في أزماتهن ويتبنَّى أُخرى ليعوّضها بالحنان الغائب عنها.

كيت الزوجة والأم الناجحة، كيفين الذي اعتبره أقرب الشّخصيات لجاك وظهر ذلك جليًا في معاملته للجميع وبالأخص عمه نيكي الذّي وقف بجواره في محنته وكان خير سند له، هكذا تكون العائلة!

 لا يوجد شخص مثالي ... لكل منّا مأساته الخاصة

يذكّرنا المسلسل بأن ليس كلّ ما نراه حقيقًيًا وأنّ الصّورة التّي تراها غير كاملة إنّما هناك دومًا قطعة ناقصة لا تعرف عنها شيئًا، لا تنخدع بالشّخصيّة المثاليّة التّي لا وجود لها سوى في الرّوايات الرّخيصة فلا أحد كامل كلّنا بشر معرضون للاختيارات الخاطئة، وللحظات القسوة والتّسامح، والحب والكره والانهيار والقوّة، والمعاناة والدّفء.. لكلٍّ منّا مآسيه الخاصة!

فجاك الأب والزّوج المثالي الذّي خطف أعين الفتيات منذ الحلقة الأولى أدمن الخمر في لحظات ضعفه، تَحدث بينه وبين زوجته الخلافات ولم يسامح أخيه على خطأ لا يتحمّل مسؤوليّته بالكامل، أمّا ريبيكا الزّوجة المثاليّة أخفت عن ابنها “المُتبنّى” والده الحقيقيّ وأبعدته عنه لسنوات لخوفها من أن تفقده، كيت تحقد على أمّها لجسدها المثاليّ وعلى الرّغم من  حبّها لزوجها إلّا أنّ الخلافات تحدث بينهم لنفس السبب كما يشعر توبي زوجها أحيانًا بالغيرة من علاقتها بأخويها، كيفين يظنّ أنّ والدته تفضّل شقيقه عليه لذا تحدث الخلافات بينهم، يدخل في دوّامة من إدمان الخمر ويخون صوفي حبّ عمره، أمّا راندل فرغبته في السّيطرة على كافة الأمور وأن يكون كلّ شيء مثاليًا جعله أنانيًا أحيانًا وهو ما كلّفه الكثير من الخلافات مع أخوته وزوجته ومن حوله.

الفقد والعوض

القدر قد لا يكون رحيمًا بالبعض أحيانًا، يخبّئ لنا مفاجآت غير سارّة، يأخذ منّا أعزّ ما نملك، يحرمنا من أقصى ما تمنّينا إلّا أنّه يعوّضنا على الرّغم من كل شيء، هذا ما يلفت نظرنا المسلسل إليه “العوض” فمهما فقدت في حياتك تذكر دومًا أن هناك ما قد يعوضك عمّا فقدت، لن يُنسيك إيّاه ولكنّه قد يكون كافيًا بالقدر الذّي تحتاجه لتتقبل معه ما فقدت.

خسرت ريبيكا زوجها في عزّ احتياجها له وعاشت أوقاتًا صعبة، ووحيدة تائهة بعد رحيله فكان العوض في ميجيل صديق جاك، لم تحبّه مثلما أحبّت جاك، لم يُنسيها إيّاه ولكنّه كان الرّفقة التّي تحتاجها حينها، عانى جاك من التّفكك الأسريّ لسنوات طويلة لم يعرف فيها معنى العائلة والدّفء ولكنّ القدر كان رحيمًا به وقرّر تعويضه بأسرةٍ شعر معها بالحب الذّي فقده طوال حياته، تعرّض كيفين لحادثة خطيرة أفقدته القدرة على لعب الكرة التّي كان متفوّقًا فيها ليحوّل دفّة مساره إلى الفنّ الذّي وجد فيه ذاته بل وأصبح ممثّلاً شهيرًا وعوّضه ذلك عن فقدان حلمه، كافحت كيت رفقة مشاكل الوزن والشّعور السيء المصاحب لها بأنّها لن تجد من يحبها لكنّها دون أن تخطط عثرت على شريك حياتها الأنسب لها ليخوضا سويًا مرحلة جديدة من حياتيهما معًا، أمّا راندل فعوّضه القدر بأبٍ وأمٍّ يحبّانه بدلاً من والده الذي تركه في أيامه الأولى أمامَ محطّة الإطفاء، كما منحه بضعة أيّام مع والده البيولوجيّ قبل وفاته وكأنّها تعويض لهما على الفراق السابق، وأخيرًا نيكي خسر أخيه دون قصدٍ منه فعوّضه القدر بابن أخيه ليكون بمثابة الرّفيق الذّي احتاجه في الأيام الصعبة التي عاشها بمفرده

ختامًا

مسلسل This Is Us أثبت لنا الواقعية تربح أحيانًا والبساطة قد تكون بوابتك نحو النجاح، لا تحتاج إلى عمل خارق يحتاج المشاهدين معه لفك شفرات ألغازه المعقدة أو دراسة اللوغاريتمات وعالم ما وراء الطبيعة أو حتّى تتبّع الجرائم والمطاردات لكي تفرض نفسك وتضمن نجاحك ولكن ببضع عناصر تقليدية ولكن مميزة في نفس الوقت، مشاهد حوارية قويّة، قصص حب واقعيّة، يمكنك أن تنجح في استمالة كارهي النّوع الدّراميّ قبل حتّى محبيه! أن تحقق نجاحًا كبيرًا يجعل العمل يقفز على رأس أبرز الأعمال الدرامية التليفزيونية، تصنع عملاً يبقى في الذّاكرة طويلاً، يحفر اسمك بالبنط العريض وسط الكبار.. هذا نحن وهذه قصتنا وهذا نجاحنا!

«Anne with an E».. الحالمون يغيرون العالم

 

«Here’s to the fools who dream, crazy as they may seem»

يقولون إن الحالمين يصنعون التاريخ؛ فهم مَن يقودون ثورات التغيير في كافة بقاع العالم، تجدهم في الصفوف الأمامية ينددون، يشجبون، تعلو أصواتهم عنان السماء سعيًا وراء التغيير، الحرية وقلب الأوضاع التي تجثم على قلوبهم وتعيق أحلامهم، لا يعرفون الفشل وفي قواميسهم لا توجد كلمة مستحيل، هؤلاء مَن لا يكتفون بمجرد الحلم مثل غيرهم فهذا أصلًا ما يُميزهم! فكلنا نحلم، كلنا نريد تغيير أوضاع نمقتها ونتمنى لو تغيرت، لكن القليل منا فقط مَن ينفضون غبار المستحيل من على أحلامهم ويتحلُّون بالشجاعة الكافية للقتال على ما يريدون، لا يهابون الفشل ويرحبون بالتحديات، يعلمون أن الفشل في معركة لا يعني خسارة الحرب لذا يحاولون مرارًا وتكرارًا مهما تكلف الأمر، يدعوهم البعض مجاذيب، مجانين ومتشبثين بالمستحيل، ولكنهم يتبعون شغفهم وفضولهم من أجل تحقيق أحلامهم ولا يرون سواها وعندما يحققونها سرعان ما تتحول نظرات كارهيهم إلى إعجاب وحسد! فللأحلام لذة لا ندركها سوى عندما نراها تتحقق أمام أعيننا!

«Will you please call me Anne? Anne with an E»

عليك الترحيب بآن «بالألف الممدودة» واحدة من هؤلاء الحالمين، بل ربما يصلح أكثر تلقيبها «بآن الخيالية زعيمة الحالمين»، صهباء بجسد نحيل ونمش متناثر على وجنتيها، ثرثارة لا تغلق فمها سوى في تلك اللحظات التي تخلد فيها للنوم، ولكنها متحدثة لبقة ما إن تفتح فمها حتى تجد شلالًا من المصطلحات المعقدة التي يجب عليك العودة إلى المعجم لتعرف معناها، فضولية للحد الذي إذا وُزع على بلدة بأكملها لكفاهم وفاض، تمتلك عينان جميلتان يغلب عليهما الحزن أحيانًا وكثيرًا ما تشع كل منها بهجة وحيوية! هي من ذلك النوع الذي يسرق عيناك منذ اللقاء الأول؛ إذ تُحدث جلبة غير مُنفرة أينما وجدت، قد تحبها لحد تصبح صديقتك المفضلة وقد تكرهها وتحقد عليها لتكون ألذ أعدائك، ولكنك في النهاية لن تستطع هزيمة ذلك الشعور الداخلي الذي يجبرك على احترامها والإعجاب بها مهما كانت مشاعرك تجاهها!

»أنت أمنية تحققت لم أعلم بأنني اتمناها«

الصدفة وحدها كانت السبب الرئيس الذي جمع الشقيقين «ماثيو وماريلا» «بآن»، إذ قرر الشقيقان تبني طفل ذكر ليساعدهما في أعمال المزرعة لتقدمهما في السن وصعوبة مباشرة كافة الأعمال بمفردهما فكان الحل في عكاز يافع يستندان عليه، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث أرسل الملجأ لهما عن طريق الخطأ فتاة يتيمة صغيرة قضت فترة ليست بالقصيرة من عمرها تارة بين الملجأ، وتارة أخرى تتنقل بين منازل الأسر المختلفة، وفي حالتها تلك لن تعرف أيهما كان أكثر سوءًا! وبالرغم من محاولتهما في البداية لإعادتها إلى الملجأ إلا أنها نجحت في سرقة قلوبهما ليقررا الاحتفاظ بها كفرد من العائلة، ويتغير الوضع في النهاية من «خطأ عليهما إصلاحه» إلى «أمنية تحققت لم يعلما إنهما يتمناها»، إذ غيرت «آن» حياتهما و«جرين جيبلز» للأبد!

»حياتي مقبرة للآمال المدفونة«

المسلسل المأخوذ عن الرواية الكلاسيكية «Anne of green gables» للكاتبة الكندية لوسي مود مونتجمري والذي قررت شبكة CBC تحويله إلى عمل تليفزيوني عام 2017 وأنتجت ثلاثة مواسم منه، يصحبنا في رحلة بديعة ولكنها للأسف قصيرة نحو عالم «جرين جيبلز»، حيث لا وجود سوى للطبيعة الساحرة والمناظر البديعة ونسائم الهواء الصافية، ولكن بالرغم من كل تلك الجماليات، إلا إن البلدة يغلب عليها وعلى سكانها الصمت والروتين القاتل وأحيانًا الحزن!

هبطت «آن» على البلدة ليتغير معها كل شيء إذ يبدو أن الفتاة ذات الشعر الأحمر كانت الدافع الذي يحتاجه الجميع ليتغير أو كأنها أضفت لمسة سحرية على البلدة لتتحول من اللون الرمادي إلى علبة ألوان بألف لون!

صُدمت آن في البداية بعالم لم تعتاد عليه، إذ أمضت فترة ليست بالقصيرة من حياتها لا تعرف سوى القسوة والوحدة، لم تعرف للحب عنوانًا، بل كل مَن عبر طريقها تسبب في إيذائها، لم تتخذ صديقًا طوال حياتها سوى الكتب العابرة التي ساعدتها أن تحيا بصورة مختلفة، بل أنقذها خيالها النشط من أن تفقد عقلها أو تقرر إنهاء حياتها بصورة مأسوية، لم تلتقي والديها أبدًا ولم تذهب للمدرسة يومًا، ببساطة لم تمارس حياتها بالصورة الطبيعية التي يفترضها أن تحيا بها.

لذا لم يكن تقبلها أمرًا سهلًا على سكان البلدة، فكيف تتوقع أن يتقبل الجميع فتاة يتيمة أمضت حياتها رفقة أطفال الملاجئ، قاطعوها، لم يتقبلوا وجودها، حاربوها، ولكنهم في النهاية خضعوا للاستثنائية «آن» التي نجحت في التمرد على مآسيها وانكساراتها وأجبرت الجميع على التمرد على أوضاعهم القميئة مثلها!

حولت «آن» مسار كل شيء في جرين جيبلز من النقيض إلى النقيض! بدءًا من «ماثيو وماريلا» والتي كانت بمثابة القطعة الناقصة في حياتهما الروتينية إذ أضفت عليها جوًا دافئًا حنونًا، منحتهما سببًا أساسيًا للحياة، أنارت لهما طريقًا لم يعرفا بوجوده قط ومنحتهما مشاعر الأبوة والأمومة التي افتقداها حتى وإن لم يعلما بذلك!

ساعدت «كول» الوحيد، على اكتشاف مواهبه المدفونة، أرشدته نحو طريقًا كان يغفل وجوده، وأصبحت رفقته بعد أن لفظه الجميع، صادقت «ديانا الارستقراطية» ووجد كلًا منهن ضالته في الأخرى، بل تعلمن سويًا معنى الصداقة، الحب والجنون والرفقة، نجحت في تغيير الصورة السيئة عنها لدي رفيقتها في المدرسة وأصبحت صديقتهن المفضلة بعد أن كُن يتجنبن الحديث معها، بل أضحت لهن كمثل النافذة التي يطللن منها على العالم الخارجي، علمتهن أشياء ستظل ذكراها عالقة في نفوسهن وخضن رفقتها مغامرات لن تُنسى!

وجدت في «جيلبرت» كل ما تبحث عنه وما لا تعرف بوجوده! كانت له منافسة الدراسة الذكية والصديقة وأخيرًا الحبيبة التي سرقت قلبه وخطف هو قلبها من النظرة الأولى.

 

أنسة ستايسي، جيري، باش وزوجته، كاكويت وحتى اللصوص والقائمة تتسع للكثيرين.. فلم تكن «آن» مثل الغريب الذي جاء ورحل في صمت، إنما تركت بصمة وأثرًا واضحًا لن يُنسى على كل شخص وكل شيء!

»فنجان شاي جميل سيضع الأمور في نصابها الصحيح«

مثلما أنت بحاجة لكوب من الشاي الدافئ لتعدل مزاجك السيئ أحيانًا، أنت أيضًا بحاجة إلى مشاهدة مسلسل «Anne with an e» ليس فقط لتحسين مزاجك ولكن أيضًا للاستمتاع بتجربة استثنائية تُبكيك وتسعدك في آن واحد، تجربة لن تحظى بمثلها طوال حياتك!

فالدفء هو الشعور الأول الذي يتملك روحك في كل لحظة تشاهد بها المسلسل وينسيك الحياة بأكملها! الجو العام للمسلسل من المناظر الطبيعية الخلابة واللون الأخضر الذي يكسو الأراضي الواسعة يشعرك بالراحة والاسترخاء بينما الأزياء الراقية، الفساتين المنتفخة، القبعات الأنيقة، الرسائل الورقية، الشموع، المنازل العتيقة تشعر معها وكأنك سافرت إلى زمن بعيد تتمنى لو ولدت فيه!

علاقات الحب والصداقة الطفولية البريئة، بيت الشجرة ونادي القصة وتجمع الأصدقاء الذين بالرغم من اختلافهم إلا أن الحب والصداقة والشغف وراء الجديد كان الدافع ليبقوا معًا! الأنس والرفقة التي إن شعرت بغيابها عنك في الحياة الواقعية يعوضك المسلسل بجزء ولو بسيط منها، مفهوم السعادة والحزن الذي يبدو إنك على وشك إعادة اكتشافهما من جديد «فلا يمكنك معرفة الفرح إلا إن كنت قد عرفت الحزن»!

كل ذلك بجانب القدرات التمثيلية الهائلة لفريق التمثيل المميز والذي بالرغم من صِغر سن بعضهم وحداثة عملهم بمجال التمثيل، إلا إنهم أدوا أدوارهم بكفاءة عالية تنم عن موهبة مدفونة كانت تحتاج الفرصة وليس سواها لكي تنفجر وتبهر الجميع

ساهمت تلك العناصر في تكوين عمل درامي مميز سيبقى في الذاكرة طويلًا، وبالرغم من كون القصة الأصلية تبدو تقليدية إلى حد الملل خالية من الإثارة إلا أن المعالجة الدرامية للمسلسل أضفت جانبًا جديدًا ساهم في إثراء العمل وتحويله من رواية «طفولية» إلى عمل درامي ناضج ثري يضج بالقضايا والمناقشات من النسوية والتمييز العنصري وحرية الصحافة وغيرها من تلك القضايا الجدلية المسماة «بصخب العصر» ودون أن يقع في فخ الحشو والابتذال ومحاولة إقحام قضية على المشاهدين بالقوة، إنما كل شيء تم في إطار درامي متسلسل ومنطقي لينجح في استمالة شبكة جمهور عريضة ويجبر الكثيرين على متابعته بل يقفز على رأس قائمة أعمالهم المفضلة أيضًا!

لذا فإن كنت واحدًا من عشاق المسلسل فهنيئًا لك على تلك التجربة الرائعة التي حتمًا لم تكتف بها لمرة واحدة، أما إن لم تشاهده بعد فأنتَ الخاسر الأكبر، صدقني! 

عزيزتي المصابة بالرهاب الاجتماعي.. هل قلقتِ اليوم؟


خجولة، منطوية، تقلق بشأن الأنشطة الاجتماعية وتتجنب التعامل مع الغرباء، تجد صعوبة في القيام بالأشياء عندما تكون أعين الأخرين مُسلطة عليها، يلازمها التوتر والقلق وتتردد كثيرًا بشأن قرارتها، يلاحقها دومًا الخوف من الانتقاد أو التعرض للإحراج، تزورها بين الحين والآخر نوبات هلع وعصبية زائدة عندما تعلق في موقف لا تتمكن من التعامل معه، تخفي دائمًا شعور لا تعرف ماهيته لكنه يمنعها من الاقتراب والثقة بالأخرين… والقائمة تطول!

كنت أظن إنها مجرد اضطرابات عادية تحدث لمعظم البشر في بعض المواقف الصعبة أو خجلًا زائدًا عن الحد أو انطوائية شديدة أو مجرد عجز في بعض مهارات التواصل! لم أشك بأن هناك خطبًا ما خاطئًا بي إلى أن وجدت تلك الاضطرابات تتخلل حياتي اليومية بغزارة ولا تقتصر على المواقف الصعبة، وحسب إنما حتى المواقف الاجتماعية الاعتيادية باتت بها مشكلة ملحوظة، وأصبحت تؤثر على ثقتي بنفسي وحياتي سلبًا!

تعريف الرهاب الاجتماعي

بالمصادفة البحتة قرأت مقالًا على الإنترنت يتحدث عن الرهاب الاجتماعي أو (اضطراب القلق الاجتماعي) والذي يشعر المصاب به بالخوف والتوتر من المواقف الاجتماعية الاعتيادية لذا يتحاشى التواجد وسط الجموع لكونه لا يستطيع السيطرة على توتره وخجله المزمن، وأحيانًا قد يسبب الاضطراب بعض المشاكل الجسدية مثل الدوار ومشاكل المعدة وضيق التنفس وغيرها.

علمت حينها أن الأمر أكبر من الخجل أو التوتر العادي إنما يبدو أنني مصابة بالرهاب الاجتماعي!

حياة المصاب بالرهاب الاجتماعي

سلسلة لا تنتهي من الاضطرابات والمواقف المأسوية التي تشكل فيلمًا واقعيًا تراجيديًا يسمى حياة المصاب بالرهاب الاجتماعي!، يتوج القلق والتوتر والتردد كافة مواقف ولحظات الحياة حتى تلك التي يعتبرها الجميع عادية أصبحت تشكل ضغطًا عصبيًا هائلاً لك، تأخذك من منطقة راحتك وتضعك على حافة الانهيار لتصبح مأساة حياتك التي لا تعرف كيف وإلى أين يمكنك الفرار هاربًا منها، وإن حاولت مقاومتها تجدها تحيط بك من كل ناحية لتشعر وكأنها تكاد تخنقك! فلا يسعك إلا الاستسلام والرضوخ لها لتستمر المأساة كما بدأت.. إليك بعضًا منها لعلك تدرك حجم المأساة!

أشعر وكأنني سأسقط مغشيًا عليّ عندما أجد نفسي محاطة بمجموعة من الغرباء وما يزيد الطين بَلَّة هو محاولة أحدهم الحديث معي أو عندما أجد أعينهم مسلطة عليّ! أتوتر بشدة وتزداد ضربات قلبي، يحمر وجهي وأشعر بالدوار، أحاول أن استجمع قواي حتي لا أنهار باكية أو أفقد وعيي، ولكن هذا لا ينجح دائمًا إنما غالبًا ينتهي الأمر بمأساة جديدة!

ينضب شغفي تجاه الأشياء أسرع مما قد تتخيل، فأحيانًا يقتلني التفكير حول عدد الأيام التي قضيتها دون ونيس حتى اكتست حياتي بحُلَّة الكآبة والوحدة، ثم تروقني فكرة الاستمتاع رفقة الأصدقاء، أقضي ليلتي أفكر بحماس في لحظاتنا السعيدة التي سنسرقها سويًا، ثم أذهب إلى فراشي ظنًا مني أن هذا الشعور سيستمر، ولكن هيهات! فما أن يأتي الصباح أشعر، وكأن الأمر صار يطبق على أنفاسي بعد أن ظننته الملاذ الوحيد للهروب من وحدتي! يقفز في عقلي مئات السيناريوهات المحبطة التي ستُفسد يومي، أفكر في مئات الحجج لأفسد الأمر، وما إن يخرب تمامًا أعود لوحدتي لأعيد الكَرّة ألف مرة!

أفكر في مراسلة أحد الأصدقاء القدامى أو بدء صداقة جديدة مع أحدهم الذي يجمع بيننا الكثير من الاشياء المشتركة، أتحمس كثيرًا، ثم فجأة أجد مئات الهواجس تقفز في عقلي دون استئذان لتربكني وتجعلني أخشى القيام بالأمر بعد أن كنت أحترق شوقًا لفعله، مئات التساؤلات تعبث في عقلي، ماذا إن كان هذا الشخص لا يستلطفني؟ هل هو متحمس لبدء صداقة جديدة؟ هل قد يعتبرني متطفلة إن سألته عن أحواله؟ وتأتي رفقة كل تلك الهواجس أزمة ثقتي في الجميع التي تطفئ حماسي وتجعلني أعدل عن قراري!

التواجد وسط الجموع، أو في المناسبات الاجتماعية صار كالكابوس الحي الذي لا أستطيع الاستيقاظ منه! أشعر بالاختناق في تلك المواقف لذا أحاول تجنب الاختلاط وأنطوي في أحد الزوايا الغير مرئية، أتجنب الحديث أو عرض وجهات نظري لأنني أخشى أن يراني البعض ساذجة أو ثقيلة الظل أو يقلل من آرائي ويكلفني ذلك إحراج ذاتي أو يعرضني للانتقاد، نفذت قائمة الحجج التي استعين بها للفرار أو أصبحت مبتذله للحد الذي لا يصدقها أحدّ!

القلق هو صديقي الوحيد الذي أتمنى أن يحالفني الحظ لخسارته يومًا ما، يرافقني في كل خطواتي ويدحض كل محاولاتي لكي أحيا بصورة طبيعية، أشعر وكأنه يزاحم عقلي في كل مرة أقرر أن أخطو خطوة جديدة نحو الأمام ليعيدني ألف خطوة للوراء، أشعر بالحماس يغمرني من كل ناحية في بداية الأمر ثم سرعان ما يفرغ مخزون الحماس ويحل محله الخوف والقلق المزمن والرغبة في الهرب وإنهاء كل شيء!

التوتر والتردد وجهان لمعاناة واحدة! كلاهما قد يدفع بك إلى الفشل أو الخسارة! هل جربت شعور التوتر وعدم الارتياح في موقف معين حتى شعرت وكأنك ستسقط مغشيًا عليك؟ هل أحسست بالتردد القاسي في كل خطوة تفعلها في حياتك حتى وإن كانت مجرد شراء معطف جديد أو كتابة «بوست» على «فيسبوك»؟ تخيل أن يكون هذا نمط حياتك اليومي في كل شيء صدقني لن تكون مسرورًا أبدًا!

أتعرف ماذا يمثل لي الليل؟ آلة زمنية لاسترجاع الذكريات الحزينة التي لم يسر فيها الأمر مثلما أردت، أفكر في كم شخصًا خسرت وصداقة انتهت قبل أن تبدأ، كم قرارًا أجلته للغد ولم يأت نهار الغد أبدًا، كم ليلة قضيتها متسائلة إن كانت الخطوة التي اتخذتها بكامل إرادتي صحيحة أم لا، كم خطوة رجعت للوراء لآني خشيت شبح ما سيقوله الناس، كم مرة اضطررت إلى تبرير موقفي، بالرغم من أنني لم أكن المخطئة، ولكن نوبات غضبي المفاجئة دائمًا ما تكون دافع ليستغلها البعض ضدي ويصدق البعض الآخر ما ليس بي! كم مرة بكيت عندما شعرت بأنني لم ولن أصبح الطرف الأكثر تميزًا في أي موقف وقصة، لو عرفت ربما لن تصدق، وإن صدقت ستُصدم، وإن صُدمت سترأف لحالي، ثم ترمقني بنظرة التعاطف التي أعرفها جيدًا وأكرهها بقدر كرهي لكل هذا!

لا أستطيع الإفصاح عن مشاعري ولا تفسير تقلباتها، لا أعرف كيف أفسر مشاعر القلق والتوتر ومزاجيتي التي تفسد كل شيء وأنا في غمرة سعادتي ولا كيف أتلعثم ثم أفقد النطق فجأة وأنا في وسط حديثي من شدة توتري، كيف أخبرهم عن نوبات الغضب والعصبية المفرطة التي تأتيني فجأة دون مقدمات ولا أستطيع السيطرة عليها؟ هل سيفهمون كيف أعاني الوحدة وأنا وسط الجموع؟ هل يعلمون أني أبذل قصارى جهدي لأتغلب على كل هذا والرغم من ذلك لا يسر الأمر كثيرًا مثلما أردت؟ سيعتقدون أنني أبالغ أو أهول الأمر سيحاول بعضهم ادعاء التعاطف وطرح بعض الحلول المنطقية التي لن تجدي نفعًا، أما الأخرين فسيكتفون بنظرة مستنكرة أو ساخرة!

علاج الرهاب الاجتماعي

بالرغم من محاصرة تلك الاضطرابات لي من كافة الاتجاهات إلا أنني سعيت ومازالت أسعى بكل ما أوتيت من قوة للتخلص منها ووصلت في النهاية إلى عدة حلول من غمرة تجاربي التي فشلت مئات المرات ونجحت مرة ولكنها بألف مرة! وساعدتني لأتحسن ولعلها تكون طوق النجاة لك أيضًا!

أولى خطوات التغلب على أي مشكلة هي الاعتراف بها واجه ذاتك ولا تقضي أوقاتك تعدد أسباب اضطرابك إنما فكر في كيف تتغلب عليه، الخوف لا يولد سوى الهزيمة إن انتصرت عليه انتصرت على كل شيء! المشاركة في الأنشطة التي تتطلب التعامل بشكل مباشر مع الأشخاص كان لها مفعول السحر في التغلب على شبح الخوف وزيادة ثقتي بنفسي، الأمر كان يبدو مستحيلًا في البداية ولكنه شيئًا فشيئًا صار علاجًا فعالًا!، لا أتردد في طلب المساعدة إن شعرت بأي عرض من أعراض الاضطراب الاجتماعي من شخص قريب مني فالدعم سلاح لا يمكن الاستهانة به، أدون كل موقف أتغلب فيه على اضطراباتي حتى أصبحت لدي قائمة إنجازات حياتية أتحمس كل يوم لإضافة المزيد لها، أحاول ترتيب أفكاري وأرائي وكتابة النقاط الرئيسية لتكون منظمة وواضحة ثم ألتقط أنفاسي وأشارك بها، وأخيرًا أكتب فالكتابة تساعدني على تدعيم شخصيتي وإبراز مشاعري وآرائي مهما كانت دون خوف ولا شك، وبالرغم من أن تلك الاضطرابات مازالت تزورني بين الحين والآخر إلا أن حالتي تحسنت كثيرًا وأتمنى أن تستمر محاولاتي للتحسن حتى أتغلب على شبح الرهاب الاجتماعي وأعيش الحياة الهادئة المستقرة التي لم أعشها يومًا. 

حكايات الطفولة: إن أعادوا لك الذكريات فمن يعيد الرفاق

 


"حين أعود للوراء.. تأتيني صور من الماضي.. أطياف ذكريات قد صارت حكايات.. تأتي ثم تمضي"

آلة زمن هذا العصر” هكذا أعتبر موقع يوتيوب. كثيرًا ما تمر عليّ ساعات طويلة أشعر فيها بالضجر، أنهيت أعمالي ولا أجد ما أتابعه ومزاجي ليس جيدًا بما يكفي لأشاهد مسلسلي المفضل، فورًا أتجه إلى اليوتيوب الذي أعتبره سلاحًا لا يستهان به لقتل ملل الوقت، هناك أغرق في دوامة لا تنتهي من الذكريات، أعيد تلك الذكرى الجميلة لأعيش تفاصيلها مرة أخرى، وأتجنب تلك التي تصيبيني بالحزن.

يأتيني من بعيد صوت الجميلة رشا رزق وهي تدندن على لسان “أيروكا” بطلة المسلسل الكارتوني، صوتًا عذبًا، ملائكيًا يأتيك من عالم الأساطير والخيال، ليقتحم شرفة أحلامك ويعبث بها، حتى لو كانت أحلامًا طفولية سخيفة، كمثل أن أصبح الشخص الأغنى في العالم أو أتزوج شخصيتي الكارتونية المفضلة، ولكنها كانت بسيطة هانئة، كمثل ومضة تنير واقعنا وتدفعنا نحو الأمام

كل كلمة من كلمات أغانيها الساحرة تحمل فصلاً جميلاً من القصة، وتأخذنا لعالم بعيد ولكنه جميل، نحو أجمل اللحظات التي ما زال لها رونق خاص في القلب، كلمات كانت قديمًا تبعث القشعريرة في جسدك، وكأنها جرس مميز يذكرك بأن السعادة الكارتونية المفضلة لك اقتربت من بدايتها، وأن أمامك وقتًا لطيفًا لتقضيه بصحبه الأهل والأخوات، أما اليوم فصارت كمثل صافرة إنذار مخيفة، تحذرك “احترس أمامك ذكرى ستبكيك”.

"مرت بخاطري فكرة.. عبرت ظلت الذكرى.. نسيت الحزن شوقًا للغد الأفضل

دروب قد قطعتِها..  أفينا البعد أم فيها..  نسينا عيبنا في الأمس لم نسأل"

أنقّب بين الذكريات وأتوقف عند هذا الفيديو بعنوان “دروب ريمي”، وفورًا تعود بي الذكرى، حنينٌ عظيمٌ أحبسه في داخلي، أرى الثواني تمضي وتظهر المشاهد أمامي وكأنه يُعاد تمثيلها من جديد، أشاهد نفسي جالسة أمام شاشة التليفزيون في منزلنا وبجواري إخوتي، يخيم الصمت المُطبق على أرجاء المنزل ولا يبقى سوى صوت “ريمي”، نجلس لنتابع في صمت مغامراتها مع “العم فيتالس” ورحلتها لتجد أمها الحقيقية، أتذكر كم بكينا عند وفاة “العم فيتالس”، ربما كانت صدمة طفولتنا حينها، وكيف صفقنا فرحًا عندما التقت “ريمي” بأمها، تعلمنا منها الصبر والمثابرة وعرفنا قيمة الأم والصداقة الحقيقة وشعرنا معها بألم الفقد لأول مرة.

"تهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق تدعونا كي ننسى ألمًا عشناه

نستسلم لكن لا ما دمنا أحيـاء نرزق ما دام الأمل طريقًا فسنحيا"

سرت نحو محطتي القادمة، حيث المسلسل الكارتوني “عهد الأصدقاء”. من منا لا يتذكر صداقة “روميو” و”ألفريدو”؟ ما زلت أتذكر لمعان عيني في كل مشهد أراهما يتجاوزان كل المواقف والمصاعب معًا، أتذكر حزني على وفاة “ألفريدو” الذي لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي صديقه “روميو”، والذي رغم حزنه على فراقه ظل وفيًا لذكراه، بل وحارب ليحقق له ما كان يتمنى، هذه هي الصداقة الحقيقية إذًا.

لمعت الفكرة في رأسي عندما كنت صغيرة وأملك بضع صديقات مقربات، فكرت حينها لماذا لا تكون صداقتنا وطيدة مثل صداقة “روميو” و”ألفريدو” ونظل معًا حتي تشيب رؤوسنا؟ لكن ماذا حدث بعدها؟ كبرنا وتفرقنا، وظل الأمر مجرد ذكرى جميلة لشيء لم يكن، فتلك هي الحياة يا صديقي، تفرق الأحبة وتبدد الآمال وتدفع بأحلامك في اتجاه آخر لم تخطط له يومًا.

"كان حلمًا منيرًا مشرقًا كالنهار.. ليته ظل حلمًا يا زماني"

أكملت رحلتي وأنا أتجول وسط سلسلة لا نهائية من الذكريات، هذا “أنا وأخي” الذي تعلمت من خلاله معنى الأخوة، من خلال قصة “سامي” و”وسيم”، حيث رحلت أمهما تاركة لهما رسالة تجلت في مقدمة المسلسل “لا تنسَ أخاك ترعاه يداك”، وهذا “مارتن مستري” أول فتى أحلام لكل الفتيات، شعره الأصفر وقميصه الناري وسلوكه السيئ أحيانًا، كانت خلطة سحرية لتجذب الفتيات آنذاك، هذه أغنية مسلسل “بوكيمون” أتذكر أنني كنت أجمع بطاقات بوكيمون لكي أصبح الأفضل بين الجميع، ولكنها انتهت في النهاية في صندوق القمامة بعدما انتشرت إشاعة أنها تسبب مرض السرطان، خسرت بطاقاتي ولم أصبح الأفضل أيضًا، لمحت أيضًا “الفتيات الخارقات” و”كابتن ماجد” و”سلاحف النينجا” و”أتوبيس المدرسة السحري” و”أبطال الديجيتال” وغيرهم.

يمكن القول إن “سبيستون” التي بدأ بثها في مارس عام 2000 بفقرة أطفال ضمن تليفزيون البحرين الحكومي، ثم انطلقت بعدها كقناة مستقلة عام 2002، صنعت طفولتي. ربما انتهت رحلتي مع “سبيستون” كواقع، إلا أن ذكراها بقيت محفورةً في داخلي ولا يمكن للسنين محوها، فهذه حكايات طفولتنا التي لا زالت تبعث فينا الأشواق إلى زمن كنا به سعداء، ربما نسينا تفاصيلها لكن الذكريات المرتبطة بها ظلت عالقة في أذهاننا، ذكريات نشم فيها رائحة العائلة ونشعر معها بمشاعر بالدفء والاحتواء، ونسمع رفقتها أصوات الضحكات والقهقهات ونرى من خلالها أحلام الطفولة وبراءة التخيل، كلمات تعلمنا منها دروسًا وحكمًا أكثر مما تعلمنا في مدارسنا، وأغاني حفظناها دون حتى أن ندري مَن دندنها، وأبطالاً عشنا معهم أكثر مما عشنا رفقة إخوتنا وأصدقائنا.. فالذكريات الحلوة تبقى حتى وإن حاولنا النسيان.

هل أهدتنا الحياة أضواءً في آخر النفق؟

نتساءل في كل يوم تتسلل فيه الذكريات بين جوارحنا، فتملأ قلوبنا حنينًا وألمًا، “هل الذكريات التي كانت تجعل قلوبنا ترقص فرحًا بإمكانها أن تطعنك في القلب ذاته؟”، لنتكشف بعد ذلك أن الذكريات السعيدة صارت تحزننا أكثر من تلك الحزينة التي صرنا نضحك عليها وعلى تجاوزنا إياها، نكتشف أن الحكايات التي عشنا طويلاً على أمل أن تعود من جديد انتهت، وأخذت معها الضحكات المتناثرة والأحاديث الطفولية البريئة والأحلام الساذجة، ولم تترك لنا سوى فتات ذكرى وبضع صور متهالكة تبعث في صدورنا حزنًا وألمًا، وأصدقاء رحلوا أو تغيروا أو تقطعت أواصر الحديث بيننا منذ زمن ولن تعود أبدًا.

ننظر إلى أنفسنا لنجد أننا تغيرنا مثل أبطال طفولتنا، ولم نعد هؤلاء الحالمين الذين كانت أقصى أحزانهم أن ينسى والدهم إحضار مجلة الخميس، أو تراهم والدتهم وهم يتسللون خلسة لمشاهدة مسلسل “حكايات بوسي” صباح الجمعة، أو يضطرون إلى النوم مبكرًا وعدم إكمال المسلسل الكارتوني المفضل، إنما أصبحت أحزاننا أشد قسوة وألمًا.

نكتشف أننا خُدعنا من حكايات طفولتنا لسنوات، وأعددنا أنفسنا طويلاً لعالم لم نعرف عنه شيئًا، عالم ليس ورديًا مثلما رأينا في قصص طفولتنا، فالخير لا ينتصر دومًا على الشر، والحياة قد “لا تهدينا دائمًا أضواءً في آخر النفق”، وأن “مش لسة الدنيا بخير”، فالعالم ليس مليئًا بالأخيار الذين لا يتوانون عن مساعدتك، والأشرار ليسوا دائمًا وحوشًا مخيفة، إنما قد يكونوا أكثر الناس لطفًا.

علمنا في النهاية أننا لا نملك عصا سحرية لتغيير الواقع، ولن نصبح يومًا أبطالاً خارقين أو أميرات مدللات، إنما كل ما لدينا هو السعي والتشبث بالأمل وتعلّم النجاة في خضم معركة الحياة، وأحيانًا التأقلم على وضع لا نحبه، ولكنه قد يكون كل ما نملك، أحلامنا ربما قد تتلخص في أن نعيش في هدوء وسلام، ونحقق ما يجعلنا نشعر ولو بقليل من الرضا، ويكون لنا نصيب في أن نجرب شعور النجاح، حتى ولو كان وقتيًا وبسيطًا، والأمل ربما قد يكون أحيانًا دربًا من دروب الجنون، لكنه يبقى الخيار الوحيد لدينا، “فما دام الأمل طريقًا فسنحيا”.


كتالوج المشاعر

 

هل شعرت من قبل بالسوء وأنت تمارس أحد المشاعر الإنسانية؟ لا أقصد الشعور ذاته إنما الكيفية التي تمارسه بها. هل اعترتك نوبات هي مزيج مُعقد من خيبة الأمل والإحباط وأحيانًا تصل إلى الشفقة على حالك، لمجرد أن طريقة ممارستك لهذا الشعور تختلف عن قواعد الآخرين وطريقتهم؟ هل أخجلتك نظراتهم التي بدت كأنها سهام تخترق جسدك وشعرت معها كأنك منبوذ، مضطرب، غريب عن هذا العالم وكأنك فُقدت من مركبة فضائية تبعد مئات الأميال ولم تجد طريقًا للعودة بعد، لمجرد أنك تفعل ما يُناسبك وإن كان مُختلفًا قليلاً عن قواعدهم؟

هذا الاختلاف الذي كانوا يتغنون به يومًا، وعلى استعداد لدفع كل ما يملكون لأجل لحظة يشعرون فيها أنهم مُختلفون وإن كانت لحظية، زائفة، أصبح الجميع يهرب منه الآن، وكأنه وحش قبيح الوجه لا يتجرؤون حتى على مجرد النظر إليه. هل حاولت التراجع عن اختلافك ومسايرة قواعدهم لربما يجعلك هذا تنغمس في حياتهم، ولكن لم يفلح الأمر أيضًا وبدلاً من الشعور بالرضا أصبحت كأنك عالق في غرفة مظلمة، ضيقة، محاصر بملايين النُسخ التي تمارس الشعور ذاته بطريقة موحدة وضع قواعدها شخص ما من وراء الأبواب المغلقة دون أي طريق للعودة، وكأنك في كابوس أو بإحدى حلقات مسلسل بلاك ميرور؟!

إن خطرت على بالك تلك الأفكار يومًا فبالتأكيد هناك من نظر إليك وعلى وجهه علامات من الاستهجان والريبة، ودار في عقله مئات الأسئلة، يتمنى لو امتلك الجرأة ليطرحها عليك، ولكنه اكتفى بتلك النظرة على وجهه التي توحي بقبوله لأفكارك، وإن كان أبعد ما يكون عن ذلك. أتمنى لو تتاح لك فرصة لقائهم مرة أخرى يا صديقي، ليعلموا أنك كنت على حق وهم المخطئون. أما إن لم تفعل بل ولم تفهم من حديثي هذا شيئًا واعتبرته مجرد ترهات لا هدف منها، فانتظر هنا، فالإجابات ستأتيك، ولكني لا أظن أنها ستسُرك، بل ستفتح لك أبوابًا ربمًا لم تفكر يومًا في الاقتراب منها.

أهلاً بك في عالمنا الحالي، عصر السوشيال ميديا، حيث لم يعد الشخص يمارس الشعور الإنساني حسب طريقته الخاصة، وبناء على الموقف الذي يستدعي مُمارسة هذا الشعور، ولا يلقي بالاً سوى إلى ما يرضيه ويجعله مرتاحًا، إنما أصبح الشعور يتحدد حسب “الترند” بينما يحدد لك “بما وكيف تشعر”، بعض الأشخاص ممن يجلسون خارج الأبواب المغلقة ويطلقون على أنفسهم لقب “الأنفلونسرز”، وهي وظيفة حديثة من إفرازات السوشيال ميديا لا تحتاج فيها سوى إلى هاتف بكاميرا جيدة وعدد لا بأس به من المتابعين وحس فكاهي. يمكنك الاستغناء عن هذا الشرط في حال كنت تملك درجة لا بأس بها من الجمال.

كيف يحدث الأمر؟ البداية تكون هكذا دائمًا: تجربة شخصية يقصها “الأنفلونسر” من وراء هاتفه على متابعيه، شيئًا فشيئًا يبدأ في مشاركتهم تفاصيل أكثر، رأيه في منتج معين، أو تجربته في مطعم ما مثلاً، إلى كل تفاصيل حياته ومشاعره الخاصة، سرعان ما يصبح لديه جيش من النُسخ التي تحاول استنساخ كل شيء يخصه، ليجلس هو خلف شاشته يراقبهم، وكأنه يمنحهم تقييمًا خاصًا يتحدد حسب درجة تحولهم إلى تلك النسخ معدومة الهوية، وكلما كان التحول مطابقًا حصلت على تقييم مرتفع. الأمر أصبح شبيهًا بتلك الحلقة من مسلسل بلاك ميرور (nosedive) والتي ركزت على قيام الأشخاص بالتصرف طبقًا لطريقة مُعينة، بصرف النظر إن كانت تلك الطريقة تُناسبهم أم لا فقط للحصول على تقييم مُرتفع.

توحيد المشاعر وتحويلها إلى سلعة وإلقاء فردانية المشاعر وكونها نتاج خبرات ومعايير تختلف من شخص لآخر، ووضع شكل موحد لكل شعور إنساني، مُدعم بعدد من الاشتراطات لا يجب للفرد أن يحيد عنها ولا يضيف جديدًا لها، بالإضافة إلى تنحية الأهواء والمشاعر الخاصة جانبًا، والسير وفق ما وضع في “كتيب إرشادات المشاعر” المزعوم، وتنفيذ خطواته بحذافيرها، بالنسبة لي أسوأ ما فعلته السوشيال ميديا، التي نجحت في تحويل المشاعر من شيء حلو، مُختلف، يكتسب تميزه من تجارب ومواقف الآخرين، إلى شيء مشوه ومُزيف وصوري، أشبه بالنشرة المُصاحبة للعلاجات الطبية المملوءة بالإرشادات، والتي على الجميع الالتزام بها، لتجنب الأعراض الجانبية. وفي حالتنا تلك سيكون الطرد من نعيم السوشيال ميديا والتقييم المنخفض.

إليك مانفيستو من “كتيب إرشادات المشاعر” ربما يُفيدك، فالسعادة في السفر، حتى وإن كُنت تفضل البقاء في غرفتك تشاهد نتفليكس، يجب أن تُلقي بأهوائك الخاصة تلك جانبًا وتحزم أمتعتك وتجوب العالم، أما الحب الحقيقي فوراءه دائمًا قِصص مُؤلمة، عصيبة كتلك التي تمر أمام أعيننا يوميًا على صفحات فيسبوك، وتجذب أعين المراهقين، إما هذا وإما عليك أن تراجع قصتك البائسة تلك. الرضا يتلخص في وظيفة جيدة تثبتِ فيها نفسك وتحققِ أحلامك، إن كنتِ من أنصار البقاء في المنزل فلن تعرفي شعور الرضا هذا في حياتك قِط. الراحة في لمة الأصدقاء والخروجات الليلية المُتأخرة، إن كُنت منطويًا تفضل البقاء نائمًا طوال اليوم في منزلك فاحذر من انخفاض تقييمك قريبًا. فيلم مُعقد، سوداوي، كئيب هذه هي السينما وهذا هو شعور الاستمتاع، فلتذهب أفلام مارفل التي تُفضلها إلى الجحيم. إن أصابك شعور الحُزن عليك أن تملأ الدنيا صراخًا وضجيجًا لا أن تنعزل في غرفتك وتبتعد عن البشر، هذا مُخالف لما حُدد في كتيب الإرشادات، النجاح، الرضا، الإنجاز…”. لكل منهم صفحة مُخصصة في كتالوج المشاعر، قبل أن تفكر في ممارسة أي شعور إنساني منها، عليك تصفح الكتيب جيدًا ثم تطبيق الإرشادات المُحددة لهذا الشعور، كما هي دون تجويد أو تحريف.

تشعر بأن الأمر أصبح مألوفًا الآن؟ بالتأكيد مُررت به يومًا، لكن لا تقلق يا عزيزي، لست وحدك من عَلِقت في هذا، فكلنا أصبحنا محاصرين في تلك البقعة السوداء ولا نعرف للخروج بابًا، ربما حتى لم نحاول أن نجد مخرجًا منها، أعجبنا الأمر أو اعتدنا عليه لا أعرف، لكن ما أعرفه أن دائمًا هناك طريقًا للعودة، فقط عليك أن تقرر ماذا تريد وأي طريق ستسلك، إما أن تُلقي بقواعدهم وتقييماتهم هذه خلف ظهرك وتمارس مشاعرك بالطريقة التي تريدها وتُفضلها، أو تستمر في مسلسل الادعاء هذا وتتابع عملية تحولك إلى نُسخة واهية دون أي مقاومة، حتى تبتلعك الهالة مثلهم وتدخل النفق المُظلم دون أي طريق للعودة.. الأمر لك عزيزي. فقط عليك الاختيار.

لذة ألم النهايات...

في غمرة الروتين القاسي، والأيام التي أصبحت تتكرر بنفس التفاصيل الرمادية، والساعات التي حفظت ترتيب أحداثها عن ظهر قلب، والدقائق التي أكاد أجز...